فصل: تفسير الآية رقم (2):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (2):

{وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2)}
أي كرمنا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعراج، وأكرمنا موسى بالكتاب وهو التوراة. {وَجَعَلْناهُ} أي ذلك الكتاب. وقيل موسى. وقيل معنى الكلام: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وأتى موسى الكتاب، فخرج من الغيبة إلى الاخبار عن نفسه عز وجل.
وقيل: إن معنى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا، معناه أسرينا، يدل عليه ما بعده من قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا} فحمل {وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} على المعنى. {أَلَّا تَتَّخِذُوا} قرأ أبو عمرو {يتخذوا}بالياء. الباقون بالتاء. فيكون من باب تلوين الخطاب. {وَكِيلًا} أي شريكا، عن مجاهد.
وقيل: كفيلا بأمورهم، حكاه الفراء.
وقيل: ربا يتوكلون عليه في أمورهم، قاله الكلبي.
وقال الفراء: كافيا، والتقدير: عهدنا إليه في الكتاب ألا تتخذوا من دوني وكيلا.
وقيل: التقدير لئلا تتخذوا. والوكيل: من يوكل إليه الامر.

.تفسير الآية رقم (3):

{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)}
أي يا ذرية من حملنا، على النداء، قال مجاهد ورواه عنه ابن أبى نجيح. والمراد بالذرية كل من احتج عليه بالقرآن، وهم جميع من على الأرض، ذكره المهدوي.
وقال الماوردي: يعني موسى وقومه من بنى إسرائيل، والمعنى يا ذرية من حملنا مع نوح لا تشركوا. وذكر نوحا ليذكرهم نعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم.
وروى سفيان عن حميد عن مجاهد أنه قرأ {ذُرِّيَّةَ} بفتح الذال وتشديد الراء والياء.
وروى هذه القراءة عامر بن الواجد عن زيد ابن ثابت.
وروى عن زيد بن ثابت أيضا {ذرية} بكسر الذال وشد الراء. والياء ثم بين أن نوحا كان عبدا شكورا يشكر الله على نعمه ولا يرى الخير إلا من عنده. قال قتادة: كان إذا لبس ثوبا قال: بسم الله، فإذا نزعه قال: الحمد لله. كذا روى عنه معمر.
وروى معمر عن منصور عن إبراهيم قال: شكره إذا أكل قال: بسم الله، فإذا فرغ من الأكل قال: الحمد لله. قال سلمان الفارسي: لأنه كان يحمد الله على طعامه.
وقال عمران بن سليم: إنما سمى نوحا عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء لاجاعنى، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء لأظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء لاعرانى، و. إذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذانى ولو شاء لاحفانى، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني الأذى ولو شاء لحبسه في. ومقصود الآية: إنكم من ذرية نوح وقد كان عبدا شكورا فأنتم أحق بالاقتداء به دون آبائكم الجهال.
وقيل: المعنى أن موسى كان عبدا شكورا إذ جعله الله من ذرية نوح.
وقيل: يجوز أن يكون {ذُرِّيَّةَ} مفعولا ثانيا ل {تَتَّخِذُوا}، ويكون قوله: {وَكِيلًا} يراد به الجمع فيسوغ ذلك في القراءتين جميعا أعنى الياء والتاء في {تَتَّخِذُوا}. ويجوز أيضا في القراءتين جميعا أن يكون {ذُرِّيَّةَ} بدلا من قوله: {وَكِيلًا} لأنه بمعنى الجمع، فكأنه قال: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح. ويجوز نصبها بإضمار أعنى وأمدح، والعرب قد تنصب على المدح والذم. ويجوز رفعها على البدل من المضمر في {تَتَّخِذُوا} في قراءة من قرأ بالياء، ولا يحسن ذلك لمن قرأ بالتاء لان المخاطب لا يبدل منه الغائب. ويجوز جرها على البدل من بنى إسرائيل في الوجهين فأما {أن} من قوله: {أَلَّا تَتَّخِذُوا} فهي على قراءة من قرأ بالياء في موضع نصب بحذف الجار، التقدير: هديناهم لئلا يتخذوا. ويصلح على قراءة التاء أن تكون زائدة والقول مضمر كما تقدم. ويصلح أن تكون مفسرة بمعنى أي، لا موضع لها من الاعراب، وتكون {لا} للنهي فيكون خروجا من الخبر إلى النهى.

.تفسير الآية رقم (4):

{وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)}
قوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ} وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية {في الكتب} على لفظ الجمع. وقد يرد لفظ الواحد ويكون معناه الجمع، فتكون القراءتان بمعنى واحد. ومعنى {قَضَيْنا} أعلمنا وأخبرنا، قاله ابن عباس: وقال قتادة: حكمنا، واصل القضاء الأحكام للشيء والفراغ منه، وقيل: قضينا أوحينا، ولذلك قال: {إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ}. وعلى قول قتادة يكون {إِلى} بمعنى على، أي قضينا عليهم وحكمنا. وقاله ابن عباس أيضا. والمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ. {لَتُفْسِدُنَّ} وقرأ ابن عباس {لَتُفْسِدُنَّ}. عيسى الثقفي {لَتُفْسِدُنَّ}. والمعنى في القراءتين قريب، لأنهم إذا أفسدوا فسدوا، والمراد بالفساد مخالفة أحكام التوراة. {فِي الْأَرْضِ} يريد أرض الشام وبئت المقدس وما والاها. {مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ} اللام في {لَتُفْسِدُنَّ ولَتَعْلُنَّ} لام قسم مضمر كما تقدم. {عُلُوًّا كَبِيراً} أراد التكبر والبغي والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان.

.تفسير الآية رقم (5):

{فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5)}
قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما} أي أولى المرتين من فسادهم. {بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} هم أهل بابل، وكان عليهم بخت نصر في المرة الأولى حين كذبوا إرميا وجرحوه وحبسوه، قاله ابن عباس وغيره.
وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد.
وقال مجاهد: جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بخت نصر فوعى حديثهم من بين أصحابه، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال، وهذا في المرة الأولى، فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل، ذكره القشيري أبو نصر. وذكر المهدوي عن مجاهد أنه جاءهم بخت نصر فهزمه بنو إسرائيل، ثم جاءهم ثانية فقتلهم ودمرهم تدميرا. ورواه ابن أبى نجيح عن مجاهد، ذكره النحاس.
وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول: إن المهزوم سنحاريب ملك بابل، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية مائة ألف فارس فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى وأمات جميعهم إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، وبعث ملك بنى إسرائيل واسمه صديقة في طلب سنحاريب فأخذ مع الخمسة، أحدهم بخت نصر، فطرح في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء ويرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، ثم أطلقهم فرجعوا إلى بابل، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين، واستخلف بخت نصر وعظمت الأحداث في بنى إسرائيل، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا، فجاءهم بخت نصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس وقتل بنى إسرائيل حتى أفناهم.
وقال ابن عباس وابن مسعود: أول الفساد قتل زكريا.
وقال ابن إسحاق: فسادهم في المرة الأولى قتل شعيا نبي الله في الشجرة، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم مرج أمرهم وتنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا وهم لا يسمعون من نبيهم، فقال الله تعالى له قم في قومك أوح على لسانك، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
وذكر ابن إسحاق أن بعض العلماء أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وإنما المقتول شعيا.
وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: {بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ} هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل. وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق، فالله أعلم.
وقيل: إنهم العمالقة وكانوا كفارا، قاله الحسن. ومعنى جاسوا: عاثوا وقتلوا، وكذلك جاسوا وهاسوا وداسوا، قاله ابن عزيز، وهو قول القتبي. وقرأ ابن عباس: {حاسوا} بالحاء المهملة. قال أبو زيد: الحوس والجوس والعوس والهوس: لطواف بالليل.
وقال الجوهري: الجوس مصدر قولك جاسوا خلال الديار، أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الاخبار أي يطلبها، وكذلك الاجتياس. والجوسان بالتحريك الطوفان بالليل، وهو قول أبى عبيدة.
وقال الطبري: طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين، فجمع بين قول أهل اللغة. قال ابن عباس: مشوا وترددوا بين الدور والمساكن.
وقال الفراء: قتلوكم بين بيوتكم، وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقى بسيف محمد ** فجاس به الاعداء عرض العساكر

وقال قطرب: نزلوا، قال:
فجسنا ديارهم عنوة ** وأبنا بسادتهم موثقينا

{وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا} أي قضاء كائنا لا خلف فيه.

.تفسير الآية رقم (6):

{ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6)}
قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} أي الدولة والرجعة، وذلك لما تبتم وأطعتم. ثم قيل: ذلك بقتل داود جالوت أو بقتل غيره، على الخلاف في من قتلهم. {وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ} حتى عاد أمركم كما كان. {وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} أي أكثر عددا ورجالا من عدوكم. والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته، يقال: نفير ونافر مثل قدير وقادر ويجوز أن يكون النفير جمع نفر كالكليب والمعيز والعبيد، قال الشاعر:
فأكرم بقحطان من والد ** وحمير أكرم بقوم نفيرا

والمعنى: أنهم صاروا بعد هذه الوقعة الأولى أكثر انضماما وأصلح أحوالا، جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة.

.تفسير الآية رقم (7):

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)}
قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} أي نفع إحسانكم عائد عليكم. {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها} أي فعليها، نحو سلام لك، أي سلام عليك. قال:
فخر صريعا لليدين وللفم

أي على اليدين وعلى الفم.
وقال الطبري: اللام بمعنى إلى، يعني وإن أسأتم فإليها، أي فإليها ترجع الإساءة، كقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها} أي إليها.
وقيل: فلها الجزاء والعقاب.
وقال الحسين بن الفضل: فلها رب يغفر الإساءة. ثم يحتمل أن يكون هذا خطابا لبنى إسرائيل في أول الامر، أي أسأتم فحل بكم القتل والسبي والتخريب ثم أحسنتم فعاد إليكم الملك والعلو وانتظام الحال. ويحتمل أنه خوطب بهذا بنو إسرائيل في زمن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي عرفتم استحقاق أسلافكم للعقوبة على العصيان فارتقبوا مثله. أو يكون خطابا لمشركي قريش على هذا الوجه. {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} من إفسادكم، وذلك أنهم قتلوا في المرة الثانية يحيى بن زكريا عليهما السلام، قتله ملك من بنى إسرائيل يقال له لأخت، قاله القتبي.
وقال الطبري: اسمه هردوس، ذكره في التاريخ، حمله على قتله امرأة اسمها أزبيل.
وقال السدى: كان ملك بنى إسرائيل يكرم يحيى بن زكريا ويستشيره في الامر، فاستشاره الملك أن يتزوج بنت امرأة له فنهاه عنها وقال: إنها لا تحل لك، فحقدت أمها على يحيى عليه السلام، ثم ألبست ابنتها ثيابا حمرا رقاقا وطيبتها وأرسلتها إلى الملك وهو على شرابه، وأمرتها أن تتعرض له، وإن أرادها أبت حتى يعطيها ما تسأله، فإذا أجاب سألت أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا في طست من ذهب، ففعلت ذلك حتى أتى برأس يحيى بن زكريا والرأس تتكلم حتى وضع بين يديه وهو يقول: لا تحل لك، لا تحل لك، فلما أصبح إذا دمه يغلى، فألقى عليه التراب فغلى فوقه، فلم يزل يلقى عليه التراب حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يغلى، ذكره الثعلبي وغيره.
وذكر ابن عساكر الحافظ في تاريخه عن الحسين بن على قال: كان ملك من هذه الملوك مات وترك امرأته وابنته فورث ملكه أخوه، فأراد أن يتزوج امرأة أخيه، فاستشار يحيى بن زكريا في ذلك، وكانت الملوك في ذلك الزمان يعملون بأمر الأنبياء، فقال له: لا تتزوجها فإنها بغى، فعرفت ذلك المرأة أنه قد ذكرها وصرفه عنها، فقالت: من أين هذا! حتى بلغها أنه من قبل يحيى، فقالت: ليقتلن يحيى أو ليخرجن من ملكه، فعمدت إلى ابنتها وصنعتها، ثم قالت: اذهبي إلى عمك عند الملا فإنه إذا رآك سيدعوك ويجلسك في حجره، ويقول سليني ما شئت، فإنك لن تسأليني شيئا إلا أعطيتك، فإذا قال لك ذلك فقولي: لا أسأل إلا رأس يحيى. قال: وكانت الملوك إذا تكلم أحدهم بشيء على رءوس الملا ثم لم يمض له نزع من ملكه، ففعلت ذلك. قال: فجعل يأتيه الموت من قتله يحيى، وجعل يأتيه الموت من خروجه من ملكه، فاختار ملكه فقتله. قال: فساخت بأمها الأرض. قال ابن جدعان: فحدثت بهذا الحديث ابن المسيب فقال أفما أخبرك كيف كان قتل زكريا؟ قلت لا، إن زكريا حيث قتل ابنه انطلق هاربا منهم واتبعوه حتى أتى على شجرة ذات ساق فدعته إليها فانطوت عليه وبقيت من ثوبه هدبة تكفتها الرياح، فانطلقوا إلى الشجرة فلم يجدوا أثره بعدها، ونظروا بتلك الهدبة فدعوا بالمنشار فقطعوا الشجرة فقطعوه معها. قلت: وقع في التاريخ الكبير للطبري فحدثني أبو السائب قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعث عيسى بن مريم يحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، قال: كان فيما نهوهم عنه نكاح ابنة الأخ، قال: وكان لملكهم ابنة أخ تعجبه... وذكر الخبر بمعناه. وعن ابن عباس قال: بعث يحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان فيما يعلمونهم ينهونهم عن نكاح بنت الأخت، وكان لملكهم بنت أخت تعجبه، وكان يريد أن يتزوجها، وكان لها كل يوم حاجة يقضيها، فلما بلغ ذلك أمها أنهم نهوا عن نكاح بنت الأخت قالت لها: إذا دخلت على الملك وقال ألك حاجة فقولي: حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا، فقال: سليني سوى هذا! قالت: ما أسألك إلا هذا. فلما أبت عليه دعا بطست ودعا به فذبحه، فندرت قطرة من دمه على وجه الأرض فلم تزل تغلى حتى بعث الله عليهم بخت نصر فألقى في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ذلك الدم، فقتل عليه منهم سبعين ألفا، في رواية خمسة وسبعين ألفا. قال سعيد بن المسيب: هي دية كل نبى. وعن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنى قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا. وعن سمير بن عطية قال: قتل على الصخرة التي في بيت المقدس سبعون نبيا منهم يحيى بن زكريا. وعن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى عليه السلام حيث أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبة التي تلى المحراب مما يلي الشرق، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير. وعن قرة بن خالد قال: ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن على، وحمرتها بكاؤها. وعن سفيان بن عيينة قال: أوحش ما يكون ابن آدم في ثلاثة مواطن: يوم ولد فيخرج إلى دار هم، وليلة يبيت مع الموتى فيجاور جيرانا لم ير مثلهم، ويوم يبعث فيشهد مشهدا لم ير مثله، قال الله تعالى ليحيى في هذه الثلاثة مواطن: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} كله من التاريخ المذكور. واختلف فيمن كان المبعوث عليهم في المرة الآخرة، فقيل: بخت نصر. وقاله القشيري أبو نصر، لم يذكر غيره. قال السهيلي: وهذا لا يصح، لان قتل يحيى كان بعد رفع عيسى، وبخت نصر كان قبل عيسى ابن مريم عليهما السلام بزمان طويل.، وقبل الإسكندر، وبين الإسكندر وعيسى نحو من ثلاثمائة سنة، ولكنه أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا شعيا، فقد كان بخت نصر إذ ذاك حيا، فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر. وأخرجهم منها.
وقال الثعلبي: ومن روى أن بخت نصر هو الذي غزا بنى إسرائيل عند قتلهم يحيى بن زكريا فغلط عند أهل السير والاخبار، لأنهم مجمعون على أن بخت نصر إنما غزا بنى إسرائيل عند قتلهم شعيا وفى عهد إرميا. قالوا: ومن عهد إرميا وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى مولد يحيى بن زكريا عليهما السلام أربعمائة سنة واحدي وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من عهد تخريب بيت المقدس إلى عمارته في عهد كوسك سبعين سنة، ثم من بعد عمارته إلى ظهور الإسكندر على بت المقدس ثمانية وثمانين سنة، ثم من بعد مملكة الإسكندر إلى مولد يحيى ثلاثمائة وثلاثا وستين سنة. قلت: ذكر جميعه الطبري في التاريخ رحمه الله. قال الثعلبي: والصحيح من ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق قال: لما رفع الله عيسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى- وبعض الناس يقول: لما قتلوا زكريا- بعث الله إليهم ملكا من ملوك بابل يقال له: خردوس، فسار إليهم بأهل بابل وظهر عليهم بالشام، ثم قال لرئيس جنوده: كنت حلفت بإلهي لئن أظهرني الله على بيت المقدس لأقتلنهم حتى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، وأمر أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، فدخل الرئيس بيت المقدس فوجد فيها دماء تغلى، فسألهم فقالوا: دم قربان قربناه فلم يتقبل منا منذ ثمانين سنة. قال ما صدقتموني، فذبح على ذلك الدم سبعمائة وسبعين رجلا من رؤسائهم فلم يهدأ، فأتى بسبعمائة غلام من غلمانهم فذبحوا على الدم فلم يهدأ، فأمر بسبعة آلاف من سبيهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يبرد، فقال: يا بنى إسرائيل، اصدقوني قبل ألا أترك منكم نافخ نار من أنثى ولا من ذكر إلا قتلته. فلما رأوا الجهد قالوا: إن هذا دم نبى منا كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله فقتلناه، فهذا دمه، كان اسمه يحيى بن زكريا، ما عصى الله قط طرفة عين ولا هم بمعصية. فقال: الآن صدقتموني، وخر ساجدا ثم قال: لمثل هذا ينتقم منكم، وأمر بغلق الأبواب وقال: أخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوس، وخلا في بنى إسرائيل وقال: يا نبى الله يا يحيى بن زكريا قد علم ربى وربك ما قد أصاب قومك من أجلك، فاهدأ بإذن الله قبل ألا أبقى منهم أحدا. فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله عز وجل، ورفع عنهم القتل وقال: رب إنى آمنت بما آمن به بنو إسرائيل وصدقت به، فأوحى الله تعالى إلى رأس من رءوس الأنبياء: إن هذا الرئيس مؤمن صدوق. ثم قال: إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أعصيه، فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الإبل والخيل والبغال والحمير والبقر والغنم فذبحوها حتى سال الدم إلى العسكر، وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم، ثم انصرف عنهم إلى بابل، وقد كاد أن يفنى بنى إسرائيل.
قلت: قد ورد في هذا الباب حديث مرفوع فيه طول من حديث حذيفة، وقد كتبناه في كتاب التذكرة مقطعا في أبواب في أخبار المهدى، نذكر منها هنا ما يبين معنى الآية ويفسرها حتى لا يحتاج معه إلى بيان، قال حذيفة: قلت يا رسول الله، لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هو من أجل البيوت ابتناه الله لسليمان بن داود عليهما السلام من ذهب وفضة ودر وياقوت وزمرد»: وذلك أن سليمان بن داود لما بناه سخر الله له الجن فأتوه بالذهب والفضة من المعادن، وأتوه بالجواهر والياقوت والزمرد، وسخر الله تعالى له الجن حتى بنوه من هذه الأصناف. قال حذيفة: فقلت يا رسول الله، وكيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن بنى إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بخت نصر وهو من المجوس وكان ملكه سبعمائة سنة، وهو قوله: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا} فدخلوا بيت المقدس وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل، فأقاموا يستخدمون بنى إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام، ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس أن يسير إلى المجوس في أرض بابل، وأن يستنقذ من في أيديهم من بنى إسرائيل، فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنقذ من بقي من بنى إسرائيل من أيدي المجوس واستنقذ ذلك الحلي الذي كان في بيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة وقال لهم: يا بنى إسرائيل إن عدتم إلى المعاصي عدنا عليكم بالسبي والقتل، وهو قوله: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا} فلما رجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، وهو قوله: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً} فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم واخذ أموالهم ونساءهم، واخذ حلى جميع بيت المقدس واحتمله على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعه في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن حتى يأخذه المهدى فيرده إلى بيت المقدس، وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرسى بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس وبها يجمع الله الأولين والآخرين...»وذكر الحديث. قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} أي من المرتين، وجواب {إذا} محذوف، تقديره بعثناهم، دل عليه {بَعَثْنا} الأول. {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ} أي بالسبي والقتل فيظهر أثر الحزن في وجوهكم، ف {لِيَسُوؤُا} متعلق بمحذوف، أي بعثنا عبادا ليفعلوا بكم ما يسوء وجوهكم. قيل: المراد بالوجوه السادة، أي ليذلوهم. وقرأ الكسائي {لنسوء} بنون وفتح الهمزة، فعل مخبر عن نفسه معظم، اعتبارا بقوله: {وقضينا وبعثنا ورددنا}. ونحوه عن على. وتصديقها قراءة أبى {لنسوأن} بالنون وحرف التوكيد. وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة وابن عامر {ليسوء} بالياء على التوحيد وفتح الهمزة، ولها وجهان: أحدهما- ليسوء الله وجوهكم. والثاني- ليسوء الوعد وجوهكم. وقرأ الباقون {لِيَسُوؤُا} بالياء وضم الهمزة على الجمع، أي ليسوء العباد الذين هم أولو بأس شديد وجوهكم. {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا} أي ليدمروا ويهلكوا.
وقال قطرب: يهدموا، قال الشاعر:
فما الناس إلا عاملان فعامل ** يتبر ما يبنى وآخر رافع

{ما عَلَوْا} أي غلبوا عليه من بلادكم {تَتْبِيراً}.